الخميس، 29 نوفمبر 2018

الميتافيزيقا والفن...


ترتبط الميتافيزيقا بالفن على مستويين، أحدهما: "مستوى الفن" نفسه؛ لما به من دلالات فلسفية، والآخر: مستوى "فلسفة الفن" كعلم يبحث في (الفن) كفلسفة.
المستوى الأول (الميتافيزيقا على مستوى الفن): تُعدُّ العلاقة بين الميتافيزيقا والفن حديثة نسبيًّا، حيث بدأت "الميتافيزيقا" كفكرة فلسفية انتشرت في الأدب، ((فقد أصبح الشعر منذ قرن ونصف قرن من الزمان تقريبًا بالنسبة للشعراء -وأكثر منذ أي وقت مضى- بمثابة وسيلة للمعرفة؛ بل ولأرفع أنواع المعرفة، الوسيلة الوحيدة لفتح ثغرة تجاه المطلق، ثم انعكست بعد ذلك في "الموسيقى"، حيث أصبحت الموسيقى منذ "بيتهوفن"(*) (1770: 1827م Ludwig van, Beethoven) مرغمة على التشابك مع "الميتافيزيقا"، فعملت على إدخالنا في آن واحد إلى مجال أسرار الروح وأسرار الحياة الكونية.
المستوى الثاني (مستوى فلسفة الفن): يَعدُ كل من (شوبنهاور، ورافيسون، وبرجسون) الفن ميتافيزيقا مصورة، وأن المعرفة الجمالية مقدمة للمعرفة الميتافيزيقية ونموذجٌ لها، ثم جاء "هيدجر" بعد ذلك؛ لينظر إلى الفن باعتباره تفتحًا وتكشفًا للوجود وللحقيقة))([1]).
ولكي يتم تحديد العلاقة بين "الميتافيزيقا" و"الفن" يجب تحديد أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بينهما، فالميتافيزيقا شأنها شأن أي اتجاه فلسفي يسعى؛ لترسيخ قيم الحق والخير والجمال، فتبحث في الأخلاق ومصير الإنسان (من أين جاء؟ وأين سينتهي به الأمر؟)، وعن ماهية الكون الذي يحيا فيه، وكيف يحيا؟، فتهتم بمصير الإنسان ومواقفه وصراعه ضد شتى القوى، وكذلك "الفن"، تثيره هذه القضايا ويعبر عنها، فالفن مرآة الحياة التي يحياها الإنسان ومرآة صراعه النفسي والمجتمعي، وانعكاس لهذا المجتمع بتطوره أو اضمحلاله، وبالرغم من أن الفلسفة عقلية؛ أي: تعتمد على الفِكر، والفن حدسي، إلا أنَّ كلَّ واحد منهما يُكمل الآخر، فكلاهما يبدأ من الذات، والذات الإنسانية لها إرادة حرة، والفن مُهمته التعامل مع هذه الإرادة -حتى لا تكون عائقًا في طريق الإبداع-؛ لينتج فنًا خالصًا يتسم بالأصالة، وكذلك الميتافيزيقا.
وتكمن علاقة الفن بالميتافيزيقا في ((اعتبار الفن رؤية حدسية للحياة والوجود بوجه عام))([2]) ، فالميتافيزيقا تبحث في أصل الأشياء وجوهرها، وتدرك كلية الأشياء، وكذلك الفن يبحث عن عمق الشيء، وما يتركه من أثر في النفس، وما يعكسه على الوجود، وتأثيره -أيضًا- على تشكيل الوجدان.
وتتمثل علاقة الفن بالأخلاق في أن كلَّ ((منهما يمثل طريقًا للخلاص من عبودية الإرادة))([3])، حيث الإرادة حرة تريد أي شيء وفِي أي زمن؛ لكن الأخلاق والعادات والخوف من العيب والوقوع في الخطأ تحد هذه الإرادة وتحجمها، وكذلك الفن يهذب الروح ويرتقي بسلوك الفرد (المتذوق، والممارس).
وملخص علاقة الفن بالأخلاق عند "شوبنهاور": أن الإنسان الخيّر الفاضل هو نقطة تواصل بين الفن والأخلاق، ولكن الإنسان غير الخيّر فيحكمه مبدأ الذاتية ومصلحته الخاصة، وتسيطر الأنانية على سلوكه وفعله، فلا يهتم لأفراحِ وأحزانِ الآخرين، على خلاف الإنسان الخير الذي يخرج من فرديته، ويرى العالم بعين الفضيلة أو التعاطف عندما يتعايش مع آلامه، ويدرك أنها نفس آلام الآخرين.
وتعد "سيادة المعرفة" على "الإرادة" من أهم خواص الإنسان الخيّر، فهي كذلك تمثل ماهية الفنان أو العبقري، وتُعد شرطًا أساسيًّا لتحقيق الرؤية الجمالية، حيث القدرة على النفوذ من خلال مبدأ الفردية، وفي نظرية "شوبنهاور" الأخلاقية يرى أن إنكار الإرادة يصلح لأن يكون نظرية في الدين، وكذلك الفن، حيث يكتسب طابع الدين، ((فالفن هو الوسيلة التي يتحرر بها الفرد من أسر الرغبات أو الإرادة، ومن عالم الظواهر أو عالم المادة والكثرة؛ ليرتقي إلى عالم الوحدة والحقيقة والخلود أو "عالم المثل"، والفن يتحدث إلينا بروح الألفة التي لم يتحدث بها سوى الدين، وهو بهذا المعنى نوعٌ من الدين، بكل ما فيه من واجبات ومسئوليات))([4])، فعلاقة الفن بالأخلاق أنهما يسيران في اتجاه واحد، وهو "الخلاص من عالم الإرادة"، والفن يُعدُّ خلاصًا لحظيًا أو مؤقتًا، أما "الزهد" فهو دائم وأبقى.

_______________

مقطع من الفصل الأول برسالة الماجستير للباحثة/ سهام محمد
بعنوان: "الميتافيزيقا في أعمال الطبيعة الصامتة عند جورجيو موراندي وتأثيرها على بعض مصوري أوروبا ومصر"
القاهرة_ 2018




(*)  بيتهوفن: لودفيغ فان بيتهوفن، ملحن وعازف بيانو ألماني، وهوَ أحدُ الشخصيّات البارزة في الحقبة الكلاسيكيّة التي تَسبِق الرومانسيّة؛ ويُعتَبرُ من أعظَم عباقرة الموسيقى في جميعِ العصور وأكثَرهُم تأثيراً، وأبدَع أعمالاً موسيقيّة خالِدة، كما له الفضلُ الأعظم في تطوير الموسيقى الكلاسيكيّة. وتَشمَلُ مُؤلّفاتُه تِسعَ سيمفونيّات وخَمسَ مقطوعاتٍ على البيانو وأُخرى على الكمان، واثنينِ وثلاثينَ سوناتا على البيانو وسِتّة عَشر مقطوعةً رُباعيّة وتريّة؛ كما ألّف أيضاً أعمالًا للصالونِ الأدبيّ وأُخرى للجوقة وأغانٍ أيضًا.
([1]) د. سعيد محمد توفيق _ ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور _التنوير ، دار نشر لبنانية _ ص 7، 8  _بتصرف .
([2]) د. سعيد محمد توفيق_  ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور_  التنوير دار نشر لبنانية_ ص 77.
([3]) المرجع السابق ذكره _ ص 77.
([4]) د. سعيد محمد توفيق_ ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور_ المرجع السابق _ ص97.
_________________

_____________

تم النشر على موقع (كَ تَ بَ) الإلكتروني ، بتاريخ 15 يوليو 2018م

http://kataba.online/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D9%82%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق