السبت، 9 يناير 2016

رسوم وتركيبات .. فن حداثي بنكهة معاصرة .



   تكمن طاقتنا في الأشياء وتسكنها، فتظل تنبعث منها لتذكرنا بالحالة التي أسكناها بها، وتمد الآخر برسائل خفية تقربه منها أو تنفره. في معرض "رسوم وتركيبات" هناك سكينة مرحبة ، وبهجة تبثها الأعمال الفنية من أول وهلة، هذه السكينة تنبع من روح محبة للفن، وتستمتع بممارسته، فأسكنت الأعمال بفيضها الحي.
   "رسوم وتركيبات" هو عنوان معرض الفنان والناقد السفير "محمد يسري القويضي"، تحمل أعماله أكثر من اتجاه فني في إطار تنفيذي واحد يحافظ على وحدة العرض، فنجد بعضًا من سمات المدرسة "التكعيبية" و"التجريدية الهندسية" مضفرين بعباءة "الفن التجميعي" وقد تجنح بعض الأعمال نحو "المفاهيمية"، وهناك عملان ضمن فن المطويات الورقية الياباني (أوريجامي)، هذا التنوع ينجم عن خبرة نتجت من تعدد السفريات التي أتاحت للفنان زيارة الكثير من المعارض الفنية في أوروبا وأمريكا، والتعرف على الكثير من الإتجاهات والأساليب الفنية، كما كان لاهتمام الفنان "يسري القويضي" بالنقد التشكيلي والكتابة به إضافة له في الرصيد المعلوماتى واتساعًا في الرؤية الفنية.
   تنتمي الأعمال في المعرض الذي أقيم بقاعة "الباب" بدار الأوبرا المصرية إلى الفن التجميعي "Assemblage Art  "، والذي يعد من فنون القرن العشرين، ممثلًا للحداثة بما تحمله من انفتاحٍ بين مجالات الفنون المختلفة، وإمكانية الجمع بينها في عمل فني واحد. والفن التجميعي هو تطور لفن الكولاج "collage" الذي يعتمد على القصاصات الورقية والجرائد والشرائط البلاستيكية التي تلصق على مختلف الأسطح، وبتجميعها سويًا ينتج عمل فني يجرد هذه العناصر من مفهومها السابق، وجاء "الأسمبلاج" أو "الفن التجميعي" أو "التراكيب" بإضافة عناصر جاهزة الصنع "Ready Made Objects" ذات كثافة وسمك على سطح اللوحة ليتحول التصوير من ثنائي الأبعاد إلى مجسم ثلاثي الأبعاد. بدأ ظهور "الأسمبلاج" في معرض فناني "الدادائية" الذي أقيم في فولتير عام 1917" ، حيث قدم الفنان "مارسيل دوشامب" ( 1887 / 1968 _Marcel Duchamp ) عناصر جاهزة الصنع موجهًا الأنظار إلى الجمال الفني الذي يكمن في المادة غير الفنية المتمثلة في بقايا المعادن والزجاج والأشياء المأخوذة من بقايا الاستهلاك اليومي، لتصبح تلك البقايا بحد ذاتها عملًا فنيًا، وكان استخدام "مارسيل دوشامب" لهذا المفهوم الجديد بهدف التمرد على المفاهيم السائدة فى حركة الفن التشكيلي والهجوم على الجماليات الموروثة من "عصر النهضة" كرد فعل ثائر علي التشويه الذي أحدثته الحرب العالمية الأولي. وفي خمسينيات القرن العشرين راج الفن التجميعي بشكل أكثر تطورًا حيث دخل في فنون التجهيز في الفراغ وفنون "البوب آرت" " Pop Art " بدافع التجريب والتجديد في العمل الفني معبرًا عن فلسفة الاستهلاك .
   ظهر "الأسمبلاج" في مصر في سيتنيات القرن العشرين عندما قامت الفنانة "عفت ناجي 1905_ 1994" بإضافة بعض العناصر الخشبية علي سطح اللوحة لتعطيها بروزًا ثم تبعها الفنان "منير كنعان 1919 _ 2000" بتنفيذه عدد من الأعمال ثلاثية الأبعاد بإضافة بعض العناصر الخشبية، إطارات نوافذ قديمة، وقطع خردة ومسامير، وبذلك مهدا الطريق لظهور هذا الفن في مصر وتطوره ليصبح تجهيزًا في الفراغ بعد ذلك.
   يعد تناغم الألوان بين البارد والساخن من السمات البارزة في أعمال المعرض، حيث يعتمد الفنان على الألوان المتكاملة في إضفاء الانسجام والهدوء، كما تمتاز الأعمال بتوافر الإتزان البؤري وثبات التكوين، والعمل عليى تسطيح المنظور كما في "التكعيبية" وانتشار المسطحات وتقسيمها كالتجريدية، وإستخدام ورق الكانسون الملون في الخلفية كفنون "الكولاج"، ولا تخلو الأعمال من لمحات إنسانية.. ففي إحداها ترسل فتاةٌ نظرةً ناعسةً من خلف شباك موارب، حيث قام الفنان بتصميم بارز لضلفتي الشباك من الورق المقوي ووضع لوحة زيتية لفتاة تنظر من خلف " الشيش"  متخذة الاطمئنان على ما تم نشره من ملابس ذريعة لتجديد الوصال مع حبيبٍ مار، وفي آخر نجد طاولة كواء مجسمة مع قميص رجالي ومسحوق للغسيل ورسمة "للمكواة "، لعلها إشارة عن الحب الذي يجعل زوجة تهتم بأناقة ونظافة ملبس زوجها، أو لعله مشهد يومي نراه في حياتنا بصورة متكررة وربما إشارة توجيهية لترشيد استهلاك الكهرباء، وفي عمل عن الأسرة نجد السيدة زوجة الفنان السابقة مع إطارين أحدهما صورة فوتوغرافية للأسرة كاملة "الفنان والزوجة والأبناء"  والآخر به رسم لإبنة الفنان، ونجد أيضا " شنطة الهدايا وملصق لنتيجة سنوية ينتجها المركز الذي تعمل به الزوجة، كلمحة إلى حياة تخللها الود والرحمة وذكريات سكنت عمرًا فخلدت، وفي مشهد أخير نرى عصاة للتوكؤ "عكاز" بجوار رسمة لحذاء بالي يذكرنا كثيرًا بحذاء "فان جوخ"، وهذا العكاز يستند بجوار الحائط والحذاء البالي كرسالة مفادها مضي العمر.
   تأخذنا الأعمال في المعرض لجولة فكرية تحدث ربطًا بين أعمال الفنان "يسري القويضي" وبعض أعمال لفنانين آخرين من إتجاهات فنية مختلفة، فإضافة "العكاز" على سطح العمل يذكرنا بعمل للفنان الأمريكي  "روبرت روتزنبرج" (1925 / 2008 _ Robert Rauschenberg ) حيث قام بتعليق مكنسة حقيقة على الحائط وقام بالتلوين عليها مع إضافة أجزاء خشبية ضمن عمل فني، واستخدام الطبق والسكين على منضدة في عمل للفنان "يسري" يأخذنا لأعمال الفنان "دانييل سبوري" ( 1930 _ Daniel Spoerri )، التي كانت قائمة على عرض مائدة كاملة من أطباق بها بقايا طعام مع أدوات المائدة وبعض الطعام الحقيقي ويتم انتزاعها وتعليقها علي حائط العرض كتعبير عن ثقافة الاستهلاك من ضمن فنون "البوب آرت"، حيث وجه التشابه عندما قام الفنان "يسري" بتصميم منضدة من الورق وثبت عليها طبقًا نظيفًا وسكينًا تربط بين الطبق ولوحة مرسومة لطعام مع زجاجة بلاستيكية بالجوار، وفي عمل آخر يحمل نفس الفكرة نجد زجاجة وهاتفًا خلويًا قديمًا ورسمًا لبراد وكوب من الشاي، ربما لإضفاء بعض من الحميمية وقت تناول وجبة الإفطار أو شاي العصاري وإفادة بإرتباط الفنان بمتعلقاته الشخصية وعدم التخلي عنها وهذا مفهوم إنساني قد يشير إليه العمل.
 كما يوجد تصميم كولاجي بورق "القص واللزق" وهذا التصميم يقرب أن يكون إقتباسًا من عمل للفنان الأمريكي "روبرت سميثون" ( 1938 / 1973 _ Robert Smithson )، أما العمل الذي يجمع الأسرة كلها فيأخذنا بشدة إلى أعمال الفنانة الفرنسية المنشأ الفنزويلية الأصل "ماريسول إسكوبار" ( 1930 _ Marisol Escobar ) حيث التشابه في تناول العمل، وأخيرًا الاستلهام من روح عمل للفنان "توم ويسلمان" ( 1931/2004 _ Tom Wesselmann ) في العمل الذي يتضمن الشباك البارز المفتوح، حيث تصميم "توم" لأجزاء من مطبخ وعرضها على الحائط كلوحة وفتح إحدى الضلف لعرض ما بداخل الدولاب.
   وفي عملين يتضمنان تصويرًا لطائر يحلق يشبه في معالجته معالجة الطائر في الفن المصري القديم، مرسومًا على مكعبات من الورق بأسلوب "الموزاييك" وسط زجاجات مياه بلاستيكية فارغة، قال الفنان "يسري القويضي" عنهما: "إن هذين العملين مأخوذان من "المصفوفة الفرعونية"، وأن الفنان "آندي وارهول" "Andy Warhol  " قد استخدم أسلوب التكرار والاصطفاف في عمله علبة الحساء". وبرغم اختلافهما عن روح باقي الأعمال إلا أن الفنان أراد الإشارة إلى أصل الفكرة وإرجاعها للفن المصري القديم.
   أنتجت هذه الاستلهامات فنًا مغايرًا يحمل بصمة منتجه، وقد خرجت العناصر المكونة للأعمال عبر سنوات متلاحقة فمن الملاحظ أن العمل الواحد به أكثر من إمضاء للفنان نفسه بتواريخ مختلفة، ومن الجيد الإشارة إلى حسن اختيار الفنان لعنوان المعرض المباشر والشامل لفكرة الأعمال وتناولها التقني، وقد نأخذ على "الفنان يسري القويضي" إهتمامه بإضافة برواز زجاجي للحفاظ على الأعمال، حيث أخرج العمل من مفهومه كفن حداثي، وقتي، مستهلك، به بعد ثالث يحث العين على السير بين جوانبه والغوص في أعماقه، إلى فن كلاسيكي يحتاج إلى التأطير، وعلي الرغم من شفافية الزجاج إلا أنه أوجد حاجزًا نفسيًا بين العمل والمتلقي.
   وأخيرًا قد تكون هذه الأعمال نواة لمعارض قادمة تتخذ تنسيقًا متطورًا تصير فيه تشكيلًا في الفراغ، مع المحافظة على هذه الروح الإنسانية المحبة والمرحبة محلقة في سماء المعرض.                                                                    

          










                                                      
                                              سهام محمد . 29 نوفمبر 2015 م
تم النشر في مجلة الخيال ، العدد  " السابع والستون ، يناير 2016 م "



.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق