الأحد، 4 أكتوبر 2015

رؤيةٌ سريعةٌ لأهميةِ النقدِ التشكيليِّ ودورِ الناقدِ في الحركةِ الفنية .

لماذا النقدُ التشكيليُّ ؟
الفنونُ من أسمى لغاتِ التواصلِ بينَ البشرِ، فلا تحتاجُ قراءَتُهَا لأبجديةٍ، يكفي أن يكونَ الفنُّ أصيلاً يَنْبُعُ من فنانٍ صادقٍ حتى يصلَ لمتلقٍّ مُرْهَفٍ، يستقبلُ هذه الطاقةَ الإبداعيةَ فتتحولُ لطاقةٍ إيجابيةٍ ترق بالسلوكِ الإنسانيِّ وبالتالي بالمجتمعاتِ.
قديمًا كانت الفنونُ التشكيليةُ ضمنَ الشعائرِ الدينيةِ، ثمَّ مع تطورِ الزمنِ والفنونِ أصبحتْ - بجانبِ الاحتفاظِ بالطابعِ الدينيِّ - وصفًا وتسجيلاً لشخصياتٍ مهمةٍ وأحداثٍ تاريخيةٍ وحروبٍ، بَدْءًا من رسوماتِ الكهوفِ، مرورًا بعصرِ النهضةِ، حتى نهايةِ القرنِ التاسعِ عَشَرَ الذي تطورتْ فيه العلومُ والتكنولوجيا، فقامت نظرياتٌ فلسفيةُ وعلميةٌ جديدةٌ (كالفلسفة الوجوديةِ ونظريةِ الضوءِ)، فتحت المجالَ لاتِّجاهاتٍ فنيةٍ مغايرةٍ للفنِّ في العصورِ السابقةِ في الفكرةِ والتناولِ والموضوعِ، كما كان للحربِ العالميةِ الأولى أثرٌ في هدمِ بعضِ المفاهيمِ والتحررِ من القيودِ الفكريةِ والمجتمعيةِ، وكان لهذا أثرٌ على الفنِّ التشكيلي، فنجدُ مدارسَ فنيةً جديدةً كالتأثيريةِ والتكعيبيةِ والسيرياليةِ وغيرِهم.
ولذلك كان لا بدَّ من وجودِ نقدٍ فنيٍّ لا يكتفي أن يكونَ خبرًا في جريدةٍ أو سردًا تاريخيًّا، ولكنْ أنْ يصبحَ علمًا لتذوقِ وتفسيرِ وتحليلِ العملِ الفنيِّ له قواعدُه ومناهِجُه، يقومُ به ناقدٌ مثقفٌ واعٍ ملمٌّ بالحركةِ التاريخيةِ وتأثيرِها علي المجتمعِ، وأثرِ ذلك على الفنانِ وكيفيةِ التعبيرِ عنه في عمليتِه الفنيةِ، ومع قيامِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ وتطوُّرِ التكنولوجيا وسهولةِ التواصلِ بين المجتمعاتِ، أخذ الفنُّ مفهومًا آخرَ، حيث ظهرت اتجاهاتٌ فنيةٌ تعتمدُ على الفكرةِ والمفهومِ والخامةِ؛ فقامت المدرسةُ المفاهيميةُ والتشكيلُ في الفراغ، فتطلَّبَ هذا الانفتاحُ ناقدًا شموليًّا، يجيدُ الحكمَ على العملِ الفنيِّ بحياديةٍ وعن فهمٍ، فهو يضىءُ الطريقَ للمتلقي لفهمِ العملِ الفنيِّ وبالتالي الاستمتاعُ بمواطنِ الجمالِ بهِ، ولذلك يجبُ أنْ يمتازَ الناقدُ بالقدرةِ على إدراكِ المتعةِ الجماليةِ في العملِ الفنيِّ، والقدرةِ على صياغةِ أفكارِهِ والتعبيرِ عنها بمفرداتٍ تصلُ للقارئِ (المتلقي) دونَ تسطيحٍ أو تعقيدٍ.

الحركةُ التشكيليةُ في مصرَ.
منذُ عرفتْ مصرُ الفنَّ التشيكيليَّ بمفهومِهِ الحالي على يدِ فناني الحملةِ الفرنسيةِ والمستشرقينَ، مرَّتْ الحركةُ الفنيةُ بتطوراتٍ كمثيلَتِهَا في الغربِ، حيث كان الفنانونَ على درايةٍ بالأحداثِ السياسيةِ والتطوراتِ في أوروبا، كما كانت مصرُ من ضمنِ هذه الأحداثِ؛ نظرًا لوقوعها تحت الاحتلالِ، ثمَّ دخولِها في حروبٍ بعد الاستقلالِ، بجانبِ الاتصالِ العلميِّ والفنيِّ بمدارسِ وجامعاتِ الغربِ، فكان لهذا تأثيرٌ على الوعيِ المجتمعيِّ والفكرِ الثقافيِّ في مصرَ، وبالتالي انعكس ذلك على الفنونِ بأشكالِها، وخاصةً الفنَّ التشكيليَّ.
فعندَ قيامِ المدارسِ الحديثةِ في أوروبا كان في مصرَ ما يعادِلُهَا من تطورٍ وتغيرٍ في الأساليبِ التقنيةِ المُتَّبَعَةِ، فنجدُ هنا أيضًا سيرياليةَ حامد ندا وعبد الهادي الجزار وتأثيريةَ أحمد صبري، ثم تطورت الحركةُ الفنيةُ أكثرَ بقيامِ الأجيالِ اللاحقةِ بالتجاربِ الفنيةِ وقيامِهم بإدخالِ خاماتٍ جديدةٍ على العمل الفنيِّ أمثالَ عفت ناجي وفرغلي عبد الحفيظ ومصطفى الرزاز وأحمد نوار وغيرِهِم، ورغمَ هذا التطورِ فإنَّ الخاماتِ المستخدمةَ كانت تحملُ الطابعَ الشرقيَّ، وكانت الأعمالُ الفنيةُ مختلفةً عن سابقتِها، ولكنها كنتاجِ تطورٍ ونموٍّ للحركةِ الفنيةِ وليست منفصلةً. وتَبِعَ هذا تحوُّلٌ في حركةِ النقدِ التشكيليِّ في مصرَ، حيثُ تحوَّلَ من خبرٍ في الصحفٍ عن معرض مقامٍ لفنان، إلى وجودِ نقادٍ يكتبون مقالاتٍ نقديةً تصفُ وتحللُ وتعارضُ وتتفقُ لتقوِّمَ المسارَ الفنيَّ، ومن أبرزِ النقادِ في هذه الفترةِ : الناقدُ بدر الدين أبو غازي، الناقدُ الفنانُ محمود بقشيش، الناقدُ الفنانُ محمد عز الدين نجيب.
عندما جاءت الثمانينيات؛ استقرتْ أحوالُ البلدِ بعد الانتصارِ في الحربِ، وخمدَ الحراكُ الشعبيُّ الثوريُّ، وحدث خمولٌ في الحركةِ الفنية، حتى قيامِ صالونِ الشباب عام 1989، وجدَّ في الساحةِ الفنيةِ بعضُ الفنانين الجادين المتابعين للحركةِ الفنيةِ وتطورِها في الغربِ مع هضمٍ لحضارةِ وفنونِ الشرقِ، فَأَنْتَجُوا فنًّا معاصرًا يعتمدُ على الفكرة، فنشأت المفاهيميةُ والتجهيزُ في الفراغِ وبعضُ الفنونِ المعاصرةِ التي مكَّنتهم من المشاركةِ في المسابقاتِ والمعارضِ الأوروبيةِ، بل والحصولِ على بعضِ الجوائزِ أيضًامثل الفنان أيمن السمري والفنان عادل ثروت وغيرهم ، كانت الحركةُ التشكيليةُ في مصرَ تتطورُ بمفهومها كخطوةٍ تلي الأخرى كعملٍ متكاملٍ له مراحلُه وثقافتُه البيئيةُ النابعةُ منه. 

ماذا بعد ؟
في التسعينياتُ - وخاصةً النصفَ الأخيرَ منها - وُجِدَتْ فجوةٌ كبيرةٌ في الحركةِ التشكيليةِ، هذه الفجوةُ لها أكثرُ من بعدٍ:
البعد الأول : فجوةٌ بين الفنِّ التشكيليِّ في مصرَ ونظيرِه في أوروبا وأمريكا (خاصةً بعد اهتمامها بالفنِّ التشكيليِّ وجلبِ الفنانين لإقامةِ المعارضِ بها) .
وهذه الفجوةُ نَتَجَتْ عن فسادٍ إداريٍّ مكَّن بعضَ عديمي الكفاءاتِ من تولِّي المناصبِ المهمة، فكان الحكمُ على الأعمالِ الفنيةِ نابعًا عن أهواءٍ شخصيةٍ ومصالحَ مشتركةٍ، فتنحَّى المبدعون عن الساحةِ الفنيةِ، فلم يَعُدْ بإمكان الفنانين - إلا قليل - الإتيانُ بالجديدِ، وأصبح الفنُّ المقدَّمُ إما تقليدًا لأعمالِ فنانينَ غربيينَ أو فنًّا مجترًّا من أعمالٍ مصريةٍ سابقةٍ، فانخفضَ المستوى الفنيُّ العامُّ.
أما البعد الثاني : فهو عَلاقةُ المنتجِ الفنيِّ بالمتلقي (الجمهور)
لم يَعُدْ للفنِّ التشكيليِّ جمهورٌ عريضٌ يحضرُ المعارضَ والندواتِ الفنيةَ، حيث حدث جفاءٌ بين الفنانِ والمتلقي؛ نتيجةَ تقليدِ شريحةٍ كبيرةٍ من الفنانين للأعمالِ الغربيةِ دون فهمٍ لأسباب قيامِ الفنانِ الغربيِّ بذلك، حيث هذا العملُ نابعٌ من بيئته، واعتمادِ الفنانِ المصريِّ على اللجوءِ إلى الصدمةِ في العملِ الفنيِّ دون احتوائِهِ على أبسطِ القواعدِ التي تُحِيلُهُ فنًّا حقيقيًّا لمجردِ اكتسابِ شهرةٍ حتى ولو بالسلب، كذلك قيامُ بعضِ مسئولي اللجانِ الفنيةِ بحجزِ بعضِ الجوائزِ الفنيةِ لتابعيهم لتدخل المصالحِ الشخصيةِ، فاتخذ الفنُّ منحًى آخرَ ليس فيه إبداعٌ أو تطورٌ لما سبقه، ولكنه أصبحَ نسخةً هشةً مشوهةً عن الغرب، فأصبح لدينا مبدعون قلةٌ ومقلدون كثرٌ، وكذلك غموضُ هذه الأعمالِ وعدمُ فهمِها بسهولةٍ، مما أبعدَ المتلقي عن هذا الفنِّ الذي لا يستطيعُ فكَّ طلاسمه، متوجهًا لتحسينِ ظروفِه المعيشيةِ بدلاً من تأملِ عملٍ فنيٍّ لن يصلَ لمبتغاه .
البعدُ الثالث : عَلاقةُ الناقدِ بالفنان ونظرتُهما للعملِ الفنيِّ .
كما سادت المصالحُ الشخصيةُ العَلاقةَ بين الفنانين وبعضِهِم، فكذلك طغت هذه المصالحُ في عَلاقتهم بالنقادِ التشكيليين، فلم يعد هناك الناقدُ الموضوعيُّ المحايدُ - إلا قليل - الذي ينظرُ للعملِ الفنيٍّ بكونه عملاً فنيًّا لا بكونِه ينتمي لفنانٍ محددٍ، فبدلاً من أن يوضحَ أماكنَ القوةِ والضعفِ في العملِ الفنيِّ ويقومَ بدراستِه دراسةً وافيةً لإبرازِ مواطنِ الإبداعِ فيهِ، أصبحَ يقومُ بمهاجمةِ الفنانِ للتنكيلِ به أو بمدحِهِ بشكلٍ مبالَغٍ فيه للرفعِ من شأنِهِ وإيصالِهِ لمكانةٍ لا يستحقُّها.

دورُ الناقدِ في الحركةِ التشكيليةِ.
من المعروفِ أن الناقدَ لا يتحكمُ في الفنانِ، ولكنه يحددُ مستوى الفنِّ في المجتمعِ، وأين تقعُ بلدُه على الخارطةِ الفنيةِ بالنسبةِ للعالَمِ، ولا يتأتى هذا إلا بدراساتٍ وافيةٍ للحركةِ الفنيةِ الحاليةِ ومقارنتِها مع الفتراتِ الماضيةِ واستنباطِ مكامنِ القوةِ والضعفِ، والإسراعِ بعرضِ الحلولِ والتأكيدِ على تنفيذِها.
عندَ النظرِ للحركةِ النقديةِ في مصرَ، نجدُها متسعةً؛ فهناك المجلاتُ الفنيةُ التي تحتوي على مقالاتٍ نقديةٍ وبعضِ الأخبارِ التشكيليةِ في الصحفِ، وأيضًا إصداراتُ الكتبِ المختصةِ بالفنونِ، ولكن تظلُّ هذه مقالاتٍ فرديةً تتحدثُ عن مواضيعَ تكادُ تكونُ معادةً أو متشابهةً، وأغلبُها تدرسُ الفنَّ في فترةِ الستينيات والسبعينيات، ولم تتواجد كتب عن الفنِّ المعاصرِ في مصرَ إلا قليلٌ جدًّا، وبرغمِ إدراكِ المساوئِ في الوسطِ الفنيِّ من قِبَلِ النقاد، فإنه لم يتحد النقادُ على تغييرِ هذه المساوئِ بشنِّ حملاتٍ هجوميةٍ ومقالاتٍ وندواتٍ توضحُ هذه المساوئَ وتجابِهُهَا حتى ينهدمَ المعبدُ لإقامتِه من جديدٍ على أساسٍ سليمٍ.
والفجوةَ بين المتلقي والعملِ الفنيِّ ناتجة عن جهلٍ بالفن، ورغم ذلك لم يَقُمْ النقادُ التشكيليونَ بوضعِ مناهجَ فنيةٍ للمدارسِ تصلحُ (لكل مستوى دراسي)، توضحُ هذه المناهجُ مفهومَ الفنِّ وتطوُّرَهُ منذ الفنِّ المصريِّ القديمِ حتى الفنونِ الحديثةِ، وتقديمُها لوزارة التربية والتعليم ليتمَّ اعتمادُها، وبالتالي يصبحُ هناك وعيٌّ مجتمعيٌّ بالفنونِ؛ فيرتقي السلوكُ الإنسانيُّ.
وبالنظرِ لكلياتِ الفنونِ فيجبُ تطويرُ المنهجِ، فلا نكتفي بدراسةِ تاريخِ الفنِّ الذي يقفُ عند الفنِّ الحديثِ في أوروبا ولا يتطرقُ بالذكرِ للفنِّ المعاصرِ، وأيضًا لا يتمُّ دراسةُ الفنِّ في مصرَ ومراحلِه ولا تطوراتِه، فيتخرَّجُ الطالبُ جاهلاً بتاريخِ الفنِّ في بلدِه، ويبدأُ مشوارَه الفنيَّ منبهرًا بالفنِّ الغربيِّ المعاصرِ ويقلدُهم دونَ وعيٍ؛ فتنتجُ هذه الفجوةُ وينتجُ هذا الضعفُ.

خلاصةُ القولِ، يوجدُ في مصرَ حركةٌ نقديةٌ قد تحتاجُ بعضًا من التنظيم وترتيبِ الأولويات، ولكن يظلُّ هناك نقادٌ أَكْفَاءٌ ذَوُو رسالةٍ، ورغم أنهم قلةٌ فإنهم يَسْعَوْنَ لإبقاءِ شعلةِ النقدِ مُتَّقِدَةً وتسليمِها للأجيالِ القادمةِ، فلهم منا التحيةُ والتقديرُ.

ملحوظة : تم عرض هذه الورقة النقدية في افتتاح أولي محاضرات الورش التحضيرية للدورة الرابعة لمسابقة النقد التشكيلي بجمعية محبي الفنون الجميلة ، في الأول من أكتوبر لعام 2015 م . بقلم / سهام محمد
2 _ تم نشر هذه المقالة في موقع " كَتَبَ " الإلكتروني ، في الخامس من أكتوبر لعام 2015  ، في بند مقالات .

http://www.kataba.org/%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%AF%D9%90-%D9%81%D9%8A-%D8%A7